-->

مدى جواز تنازل الأم عن حضانة صغارها مقابل إيقاع الطلاق و أثر ذلك على نقل الحضانة للأب

 يشغل موضوع حضانة الصغار بال الكثيرين من أفراد المجتمع و خاصة إذا ما دبت الخلافات بين الرجل و زوجته او كان الزوج يسيئ معاشرة زوجته مما يضطرها إلى طلب الطلاق للخلاص من هذه الرابطة المسيئة لها ، و قد نجد في كثير من الأحيان أن الزوجة توافق على تنازلها عن حقوقها الشرعية و كذلك عن حضانة صغارها إلى أبيهم مقابل أن يطلقها . 

لكن ترى هل هذا التنازل صحيح قانوناً ؟ 

و إن كانت الإجابة نعم فهل يجوز أن يكون الأب هو الحاضن للصغار ؟ 

و إن كانت الحاضنة لا تملك التنازل عن الحضانة فما مصير عقد الطلاق ، هل يقع الطلاق أم لا ؟ 

هذا ما سنتكلم عنه في موضوع اليوم 


* و لكي نجيب على تلك التساؤولات سوف نقوم بتقسيم الموضوع إلى الفروع التالية : 

    الفرع الأول : تعريف الحضانة :

    نظراً للطبيعة البشرية فإن الصغير يحتاج منذ ولادته إلى من يستطيع تولي رعايته من مأكل و ملبس و تنظيف و إهتمام بالصحة ، حيث أنه في تلك المرحلة من حياته لا يستطيع القيام بكل ذلك بمفرده، و يقصد بالحضانة ضم الصغير إلى كنف من يستطيع تولي رعايتهو الإهتمام بشؤونه في المأكل و الملبس و الصحة. 

    و لقد فطر الله النساء على أنهن يستطعن القيام بمثل تلك الأمور اللازمة للصغير و بالأخص أمه التي حملت به في رحمها و تحملت مشاق وضعه ، فجعلها الله هي الأكثر شفقة و رحمة بالصغير فأولاها الله الحق في إرضاعه و في إمساكه في فترة حياته الأولى. 
    و لقد عرفتها المحكمة الدستورية العليا بأنها :
    " ولاية للتربية، غايتها الإهتمام بالصغير و ضمان رعايته و القيام على شئونه في الفترة الأولى من حياته، و الأصل فيها هي مصلحة الصغير، و هي تتحقق بأن تضمه الحاضنة التي لها الحق في تربيته شرعاً إلى جناحها بإعتبارها أحفظ عليه و أحرص على توجيهه و صيانته، لأن إنتزاعه منها - و هي أشفق عليه و أوثق إتصالاً به و أكثر معرفة بما يلزمه و أوفر صبراً- مضرة به إبان الفترة الدقيقة التي لا يستقل فيها بأموره و التي لا يجوز له خلالها أن يعهد به إلى غير مؤتمن يأكل من نفقته، و يطعمه نزراً، أو ينظر إليه شزراً

    ( حكم صادر بتاريخ 15 / 5 / 1993 م في القضية رقم 7 لسنة 8 ق دستورية ) 

    الفرع الثاني : من له الحق في الحضانة:

    يعتبر فهم من له الحق في الحضانة هو جوهر حديثنا حول مدى جواز تنازل الحاضنة عن الحضانة و ذلك لأن من له الحق فهو لا يجبر على الحصول عليه ، فإذا ما كانت الحضانة حق للحاضنة إذن فهي يجوز لها التنازل عنها من منطلق مبدأ أن صاحب الحق لا يجبر عليه بينما إذا ما كانت الحضانة حق للصغير إذن فالحاضنة تجبر على الحضانة ولا يجوز لها التنازل عنها.. 

    إذن من صاحب الحق في الحضانة هل هي الحاضنة أم الصغير ؟!

    إختلف الفقهاء فيمن له الحق في الحضانة ، فمنهم من قال أنها حق للمحضون، و منهم  إبن أبي ليلى و بعض فقهاء الحنفية و الإمام مالك في إحدى الروايات عنه، و من ثم فإن الأم تجبر على إحتضان صغارها - إن كانت أهل لذلك و توافرت فيها شروط الحاضنة-و لا يجوز لها التنازل عن الحضانة لأنها ليست حق لها من البداية . 

    و في رأي آخر قال بعض الفقهاء ، منهم الإمام الشافعي و أحمد بن حنبل و الثوري و الإمام مالك في المشهور عنه، أن الحضانة هي حق للحاضنة و من ثم فإنها يجوز لها أن تتنازل عن الحضانة لأن صاحب الحق لا يمكن إجباره على إستيفاء حقه و من ثم إذا ما تنازلت الأم عن الحضانة فإنها بذلك تكون قد إستخدمت حقها في التنازل عن حق لها و يكون تصرفها ذلك قد أصاب الشرع و القانون.
    ولكن بتأمل طبيعة الحضانة -و التي أوضحناها سلفاً في التعريف بالحاضانة - يتضح جلياً أن الحضانة هي حق مشترك ما بين الصغير و الحاضنة،فالأم لها الحق في الحضانة لأنها هي التي حملته و هو فلذة كبدها و هي من تحملت مشقة حمله و هي الأقدر على رعايته و الأشفق و الأرحم به ، كذلك فإن الصغير له حق الحضانة لأنه يحتاج إلى رعاية النساء اللاتي فطرهن الله بالرحمة و الشفقة و محبة الصغار و القدرة على الإعتناء بهم، و بناء على ذلك و حيث أن الحضانة هي حق مشترك ما بين الصغير و الأم بوجه خاص، و الحاضنة بوجه عام ،  فلا يجوز أن يتنازل أحدهما عن حقه منفرداً طالما هذا التنازل يعتدي على حق الآخر في الحضانة و من ثم فإن تنازل الحاضنة عن حقها في الحضانة لا يجوز طالما أن مصلحة الصغير تكون في ضمه إليها لتقوم على رعايته و الاهتمام بشؤونه على ما سنوضحه لاحقا.   

    الفرع الثالث : مدى جواز تنازل الحاضنة عن الحضانة و إنتقالها للأب:

    أوضحنا سلفاً أن الحضانة حق للحاضنة و واجباً عليها، و بناء على أن الحضانة حق للحاضنة فإن الحاضنة ، سواء كانت الأم أو غيرها من الحاضنات، إذا ما إمتنعت مختارة عن إحتضان الصغير فإن لها ذلك طالما وجدت حاضنة أخرى توافرت فيها شروط الحضانة و قبلت القيام بها، و ذلك التنازل يقع صحيحاً لأنه لم يعتدي على حق الصغير في أن يتم توليه من قبل الحاضنات . 
    و أيضاً و كما أن للحاضنة التنازل عن الحضانة ، فإن ذلك التنازل مؤقت طالما أنها تتوافر فيها شروط الحضانة و معنى ذلك أن الحاضنة التي قبلت التنازل عن الحضانة من قبل يمكنها العودة و المطالبة بحقها في الحضانة طالما تتوافر فيها شروط الحضانة و كانت هي الأولى في ترتيب الحاضنات من التي تحتضن الصغير . 
    و بما أن الحاضنة لها الحق في الحضانة و يمكنها العودة و المطالبة بها، إذن من باب أولى فإنها لا تجبر عن التخلي عن الحضانة بحيث لا يمكن للأب ،أو الولي للصغير، أن ينتزع المحضون من صاحبة الحق في حضانته -سواء كانت الأم أو غيرها من الحاضنات- إلا إذا كان هناك مسوغ شرعي لذلك مثل زوال أحد شروط الحضانة أو نحو ذلك . 

    و يترتب أيضاً على كون الحضانة حق للحاضنة أن المرضع التي ترضع الصغير - إن كانت غير الحاضنة - لا يحق لها أن تأخذ الصغير بحجة أنها ترضعه بل يجب عليها أن ترضعه في مسكن الحضانة و إن كان لا بد أن تخرج بالصغير من مسكن الحضانة فيجب عليها حينئذ أن تعيده إلى الحاضنة بعد الرضاعة مباشرة ولا تحتفظ به لديها لحين الإرضاع اللاحق .. حيث أن في أخذ المرضع من مسكن الحضانة إعتداء على حق الحاضنة في إحتضان المحضون . 
    و أما عن كون الحضانة واجب على الحاضنة و حق للمحضون، إذن ليس لها الحق في الإمتناع عن إحتضان الصغير بل و تجبر على الحضانة طالما لا توجد حاضنات أخريات أو لا تتوافر فيهن شروط الحضانة و ذلك حتى لا تفوت على الصغير حقه في الحضانة. 
    و أيضاً يترتب على كون الحضانة حق للمحضون و واجب على الحاضنة، أن الحاضنة لا تملك الإتفاق مع والد الطفل أو غيره على تنازلها عن الحضانة في مقابل الطلاق أو مقابل دين للزوج عليها و يترتب على ذلك الإتفاق بطلان ذلك التنازل لأنه يقع على حق غير حق المتصرف فيه، بمعنى أن الحاضنة و إن كانت تملك الحق في الحضانة و لها التنازل عنها مؤقتاً إلا أنها لا تملك إسقاط حق الصغير في الحضانة و من ثم لا يقع التنازل عن الحضانة من قبل الحاضنة إذا ما لم توجد حاضنة أخرى تتوافر فيها شروط الحضانة ، و إن كان التنازل عن الحضانة مقابل إسقاط دين فإن هذا الدين لا يسقط لأن إسقاطه كان بمقابل لا يمكن أن يتحقق لتعلقه بحق الغير.

    و يثار السؤال هنا حول مدى جواز إتفاق ولي الصغير مع الحاضنة على التنازل عن الحضانة إثر رغبتهما في ذلك ؟! 

    و للإجابة عن هذا السؤال يجب توضيح أن حق الحضانة و إن كان حقاً مشتركاً بين الحاضنة و الصغير، إلا أن مصلحة الصغير هي الأولى بالرعاية و على ذلك النحو إتجهت أحكام القضاء فنجد على سبيل المثال حكم محكمة جرجا الصادر في 23 يوليو سنة 1933م و الذي قرر أن لكل من الحاضنة و المحضون حقاً في الحضانة، إلا أن حق المحضون أقوى من حق الحاضنة، و أن إسقاط الحاضنة حقها في الحضانة لا يسقط حق الصغير. 

    و حيث أن مصلحة الصغير هي في تولي النساء رعايته في تلك المرحلة من حياته، و حيث أن ترتيب الحاضنات كما قرره الفقه هو الأمثل للإهتمام بمصلحة الصغير ، إذن لا يجوز أن تتجه إرادة الصغير - متمثلة في رأي وليه سواء كان والده أو غيره- و إرادة الحاضنة إلى تنازل الأخيرة عن الحضانة و يقع باطلاً هذا التنازل لتعلقه بمصحلة الصغير التي أولاها الشرع و القانون الحماية.

    و لكن ماذا إذا كانت هناك حاضنة تلي التي تنازلت في ترتيب الحاضنات، هل يجوز التنازل عن الحضانة ؟! 

    بوجه عام ،و كما أوضحنا سابقاً، أن الحضانة مشروعة للنساء في المرحلة العمرية الأولى من حياة الصغير و بناء على ذلك فإن تنازل الحاضنة عن حق الحضانة - في حالة أن ذلك لن يسقط حق الصغير- لا يعني أن هذا التنازل مقرر للأب أو لولي الصغير عموماً لأن ليس من حق الأب إحتضان الصغير في مراحل حياته الأولى بل أن الحق هنا هو حق الصغير في أن يتم تولي رعايته من قبل النساء. أما بخصوص التنازل في وجود حاضنة تالية في ترتيب الحاضنات، فإن ذلك التنازل هو تنازل مؤقت عن الحضانة و يصح هذا التنازل و تنتقل الحضانة إلى الحاضنة التالية في ترتيب الحاضنات - ما لم يكن ذلك يضر بالصغير بشكل أو بآخر - طالما تتوافر فيها شروط الحضانة، و نقول أن هذا التنازل مؤقتاً لأن الحاضنة التي سبق و تنازلت عن الحضانة يجوز لها العودة و المطالبة بها مرة أخرى طالما مازالت تتوافر فيها شروط الحضانة. 

    الفرع الرابع :أثر التنازل عن الحضانة على إيقاع الطلاق:

    أسلفنا القول أن حق الحضانة هو حق مشترك ما بين الحاضنة و الصغير و لا يمكن أن يتم التنازل عن الحق إن كان ذلك يتعارض مع مصلحة الآخر و بالأخص الصغير الذي هو الأحق بالحضانة من الحاضنة. 

    و لكن قد يحصل أن تتفق الزوجة مع الزوج على أن يتم التخالع مقابل التنازل عن حقوقها و من بينهم حق إحتضان صغيرها، و بالفعل يطلق الزوج زوجته بناء على ذلك الإتفاق، فيثار التساؤل هنا حول صحة الطلاق الذي وقع بناء على إتفاق على شئ ليس من حق الزوجة أن تتفق عليه ؟! 

    و نجيب على ذلك أن إذا ما حصل الإتفاق على الطلاق مقابل التنازل عن حق الحضانة فإن ذلك الإتفاق تنفذ بنوده و يبطل بند إسقاط الحضانة، بمعنى أن الطلاق في هذه الحالة يقع صحيحاً و إنما يبطل بند إسقاط الحضانة و في هذه الحالة تكون الزوجة قد طلقت طلاقاً شرعياً صحيحاً و مازالت هي الأحق بحضانة الصغير طالما تتوافر فيها شروط الحاضنة و يجوز لها أن تستوفي حقها بكل الوسائل المشروعة و من بينها القوة القضائية و التنفيذية الجبرية، بل و ترغم على الحضانة كما أوضحنا سابقاً. 

    و بذلك عزيزيتي القارئة و عزيزي القارئ نكون قد وصلنا إلى نهاية الموضوع بخصوص "مدى جواز تنازل الأم عن حضانة صغارها مقابل إيقاع الطلاق و أثر ذلك على نقل الحضانة للأب" و نلخصه في أن الحضانة هي حق مشترك بين الحاضنة و المحضون و حق المحضون في الحضانة أقوى من حق الحاضنة، و بناء على ذلك فإن الحاضنة لا تملك التنازل عن الحضانة طالما أن ذلك قد يتعارض مع حق المحضون فيها و يقع باطلاً كل إتفاق من الحاضنة بخصوص التنازل عن الحضانة و يكون للحاضنة الحق في المطالبة بضم المحضون لها بصفتها الحاضنة حتى و لو سبق و تنازلت عن الحضانة لأن تنازلها لا يقع صحيحاً. 

    نتمنى أن يكون الموضوع قد أجابكم على هذا التساؤل الخطير و إن كان لكم تعليق يرجى مشاركته معنا في التعليقات 

    مع تحيات/ 

    أ. أحمد طه المحامي أمام محاكم الأسرة و الإستئناف العالي